قيمة المرء منّا مقترنة بما يفعله. ولكن قيمة العمل لا تكمن في النتيجة النهائية له. فالامر ككثير من الاشياء نسبيّ، فالبعض قد يعتبر فعلاً ما بطولياً، في حين يعتبره البعض الآخر فعلاً شريراً. فمن يحسم ذلك الامر، اذن؟

في تلك الرحلة الواهية اﻷبدية المسمّاه البحث عن السعادة المطلقة، العديد من الناس قد يقوم بما لا يود أن يفعله إذا أتيحت له رفاهية الاختيار. تلك الأفعال لها تأويلات عدة في كل مرة نظرت إليها من زاوية غير الأخرى. كاﻷم التي قد تلقي بنفسها في النار كي تنقذ ولدها. لو نظرت لتلك الفعلة نظرة باردة سقيمة لا روح فيها، قد ترى أنه ضرب من ضروب الجنون. في حين إن نظرت لها نظرة أكثر حكمة، لعلمت أنه بالتأكيد لا يقوم بتلك الفعلة إلا من لديه دافع قوي لمثل هذه الفعلة والتي تسهّل تبريرها. على صعيد آخر، فاعل الخير المتخفي بأفعاله التي يبدو ظاهرها الإحسان من أجل أهداف أخرى قد تتعارض مع طبيعة فعل الخير، كأن يهدف بشكل أساسيّ على الربح الشخصيّ، هو أيضاً مثال سودويّ.

لو وُجدت قائمة بكل الافعال الخيّرة لكان جميع البشر من القائمين عليها، ولكن لم ولن يوجد شئٌ كهذا، لأن كل الافعال ورائها دوافع، وكل الدوافع لابد أن يتبناها بعضٌ من البشر. ولا يمكن أن نحكم على الافعال بمدى تأثيرها على الناس، لأنه أمر نسبي كذلك. يبدو أنه لا يمكن أن تحكم على فعلة ما لا لذاتها ولا لمحصّلتها. الامر إذن يكمن في نية صاحب تلك الفعلة.

ما السبب وراء ما نقوم به؟ سؤال قلّما نطرحه على أنفُسنا، قد يكون هناك العديد من النتائج لما قد نقوم به. بالرغم من هذا، نتيجة واحدة هي التي نضعها نَصب أعيننا. أهي المادة؟ نادراً ما تكون لأجل المال لذاته، بل لأجل ما قد نصنعه بهذا المال. صيّاد يقتل لهوايته فقط غيرُ عابئٍ بطعامه سيموت جوعاً عما قريب.

إن لم ندرك ما المغزى من كل هذا، وما الدافع الرئيسي لما نقوم به، فسيؤدي ذلك بنا إلى حياة وهمية غير واقعية. التطلع إلى حياة أفضل شئٌ فطريّ غريزيّ، ولكن إلى أي مدى سنخصص من وقتنا على هذه الارض في سبيل ذلك؟ أين يقع الحد الذي إذا تخطيناه أصبحنا مسرفين في ذلك؟ لو أننا ضمننا الخلود على هذه الارض وأصبح أكثر ما لدينا هو الوقت، لكنّا مستلقين على ظهورنا ناظرين إلى السماء في مكان فسيح لا نبالي؟ بالطبع إن الامر ليس بهذه البساطة، الحياة أعمق من هذا.

ثم يأتي ذلك السؤال الذي يطرحه الجميع: لمَ العناء؟ جميعنا نعلم أن إنهاء المرء حياته بيديه أمر في المستطاع دائماً; إذا اعتبرنا أن وجودنا - فقط - حتى نحظى بحياة هنيئةٍ مرتاحين البالَ والجسد، لكان الموت أهون ما يمكن للمرء فعله في سبيل ذلك، حيث الضمان بألا شقاء بعد ذلك مطلقاً، الضمان الوحيد بأنه لا يوجد مالا تقلق منه ولا الخوف من مجهول، حيث أن كل ما هو قادم معلوم مسبقاً: لا شئ قادم، ليس راحة، ولكنه أيضاً ليس عناء.

كل ذلك باعتبار أنك وجدت للراحة فحسب، ولكن ما إن تتأمل حولك وفي نفسك حتى تجد أنه لم ولن تكون الحياة على هذا النحو مطلقاً، لست هنا حتى تهنئ وترتاح، فالحياة مليئة بالشرور، ومليئة بما تلح عليه نفسك بأن تنجزه، وأنت تجد في نفسك ما يجب عليك أن تلتزم به وتمسك عليه العهود والمواثيق. لم يخلق كل هذا عبثاً. خُلقنا ولكل منا احتياجاته خاصة، وما يلزم حتى يشبعها. ولكننا أيضا خُلقنا بواجبات لزم علينا أن نمتثل لها ونسلم. وتلك هي الحقيقة الوحيدة التي يجب نضعها نُصب أعيننا في كل فعل نتخذه في حياتنا، أن نمتثل لأوامر الله، فالمركزية للخالق، وليس للمخلوق.

قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ
سورة اﻷنعام - آية 6

وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
سورة الذاريات - آية 56

جودة ما نقوم به من العمل لا يمكن أن بحال أن تقترن بطبيعته، طالما التزم المرء بشئ فلا بد أن يبذل لها قصارى جهده، وأن يعمل على ذلك بإخلاص. فما دون ذلك مضيعة للوقت، كأنه كتاب بلا صفحات.

اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ
سنن أبي داود 1368. صححه اﻷلباني

لنطلق على كل ما قد يقوم به أي مننا عمل، بما في ذلك خلوده للنوم، هل كل عمل لا بد له أن يقترن بوقت محدد؟ هل العمل مجملاً شئ سئ؟ ماذا قد تسمي الحياة التي لا عمل بها؟ لا يجب أن يطلق على أي عمل “رتيب”، كل ما نقوم به في الحياة لا بد له من سبب، سواء كان بمقابل أو لا، مقترن بفترة محددة أو لا. لذلك يجب أن نكفّ عن إعطاء أعمالنا أوصافاً وعناوين تبهت من معناها الحقيقيّ، وتضعها في غير مكانها. عندها سنجد أن كل ما نقوم به سهل التأصيل إلى حقيقة محورية جوهرية، لا يحتاج إلى تكلّفٍ أو معاناة، أو استراحات واهمة، وكأن أعمالنا احتاجت لاستراحة في المقام الاول. فما استراحتنا تلك إلا أعمال هي الأخرى، فقط لتنسينا الثّقَل الحقيقيّ، الذي ليس هو العمل ذاته أنه احتاج لانقطاع، بل الغاية وراء ذلك التي سببت ذلك الشعور بالانهزام والثّقَل.

حَدَّثَنِي عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ سَأَلْتُ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ قُلْتُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ كَانَ عَمَلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَلْ كَانَ يَخُصُّ شَيْئًا مِنَ الأَيَّامِ قَالَتْ لاَ، كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، وَأَيُّكُمْ يَسْتَطِيعُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطِيعُ
صحيح البخاري - 6466

يَا حَنْظَلَةُ لَوْ كُنْتُمْ كَمَا تَكُونُونَ عِنْدِي لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ - أَوْ عَلَى طُرُقِكُمْ - يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةٌ وَسَاعَةٌ
سنن ابن ماجه - 4239

Such there is Night، not Night as ours—Unhappy Folk
— J.R.R. Tolkien.

The Unhappy Folk: unhappyfolk.org
Telegram: unhappyfolk.t.me
Mail: msg@unhappyfolk.org